لم يسبق في تاريخ الثورات أن احتاجت ثورة إلى قانون للتظاهر¡ ناهيك عن كون هذا القانون يتطلب ترخيصاً للتظاهر من وزارة داخلية النظام القديم عينه الذي قامت الثورة من أجل إزالته. وهذا ما حصل في مصر الأسبوع الماضي. لذا ينشأ السؤال: هل هي ثورة؟ أو: هل ما زالت ثورة؟
وإذا كانت ثورة، بمعايير الثورات السابقة، ينبغي أن تحقق تغييراً على أحد مستويين على الأقل، الأول سياسي، والثاني اقتصادي-اجتماعي، حتى تحقق أهدافها، فمن الجلي أن هذا لم يتم في مصر، وقد تم جزئياً على المستوى الأول في تونس. وهي ما زالت "ثورة" في مصر فقط بمعنى المسعى للتغيير غير المكتمل بعد. ذلك أن انتقال الحكم من الإخوان إلى العسكر، أو بشكل أعم، إحلال مجموعة أو حزب أو نخبة مكان أخرى في الحكم لا يشكل تغييراً حتى على المستوى الأول السياسي، إلا إذا أدى إلى تغيير طبيعة النظام السياسي، وهذا لم يحصل في مصر بعد.
أما التراشق الإعلامي الحاصل حول أحداث 30 حزيران/يونيو وما بعد على أنها "انقلاب" أو "ثورة"، فهو صراع على السلطة لا غير. ذلك أن كلا الطرفين وإن كان بمعان مختلفة، هما "ثورة مضادة". فالإخوان سعوا لتنفيذ برنامج حزبي لا علاقة له بأهداف الثورة. أما العسكر فإنهم يسعون الآن لإعادة النظام القديم، أو بشكل أدق، لإبقائه، لأنه لم يتغير، وإقرار قانون للتظاهر "للثورة" هو أحد المؤشرات. والأمر كذلك بالنسبة للإخوان، فهم لم يسعوا لتغيير النظام القديم أيضاً كما هو معروف لمن تابع تسلسل الأحداث في مصر بقدر من التفصيل.
وأطراف الثورة المضادة في مصر ليست داخلية فقط وإنما إقليمية ودولية أيضا وتتدخل بشكل فعال في الأحداث، إما بالمال أو بالنفوذ، وجل همها أن لا تكون مصر، وإلى حد أقل تونس أيضاً، سابقة يُحتذى بها في المنطقة. إن "قوة النموذج" أمر يدركه الحكام وتدركه الدول قبل إدراك الشعوب المنغمسة في همومها الداخلية، حتى لو أدركت تبعات هذه القوة شعوب أخرى وعلى نطاق عالمي كما حصل مع الثورات العربية.
وما أدى للوضع الحالي في مصر هو نقطة البداية ودور المجلس الأعلى للقوات المسلحة السابق الذي أقر "خطة طريق" أُعلن عنها في "الإعلان الدستوري" الأول وما تبعه من إعلانات "دستورية" أخرى. والسجال حول ما إذا كان "انقلاباً" أو "ثورة" هو في الأساس سجال حول الشرعية السياسية. ويشترك كلُّ من الطرفين، الإخوان ومناهضوهم، في افتراض أن الانتخابات في بداية ثورة توفر أساساً للشرعية السياسية، والفارق بينهما أن مناهضي الأخوان يرون أن هناك أساساً آخر للشرعية السياسية مضافاً للانتخابات ولها أولوية عليها، وصفت "بشرعية الشارع" أحياناً، و"شرعية الملايين" و"الشرعية الشعبية" أحيانا أخرى. والافتراضان كلاهما خاطئ.
إنّ الثورات تستمد شرعيتها من المسعى لتحقيق أهداف الثورة. ولم يسبق لأية ثورة أن استمدت شرعية وجودها واستمرارها من النظام القديم بما أنها ثورة ضده. وإنها لمفارقة كبيرة حقاً أن قانون التظاهر الجديد يتطلب موافقة وزارة داخلية النظام القديم. أما الاعتقاد أن الانتخابات توفر شرعية سياسية في بداية ثورة، فهو ليس اعتقاداً خاطئاً فحسب، بل هو أيضاً إجراء مفتت ومدمر للثورة. فبعد أن توحد الجميع في ميادين التحرير حول شعارات الثورة التي يمكن ترجمتها إلى سياسات جديدة تغير عناصر أساسية من النظام القديم، أتت الانتخابات لتفرقهم وتفتتهم وتشرذمهم وتحولهم إلى أحزاب متنافسة كل يسعى لتنفيذ برنامجه الحزبي، وكل يدعي أن برنامجه يحقق أهداف الثورة. إن الانتخابات آلية هدفها تداول السلطة في نظام سياسي مستقر، فيه توافق بحد أدنى بين مراكز القوة في النظام على طبيعة الدولة داخلياً والعناصر الأساسية المكونة لأمنها القومي، وليست آلية لإضفاء الشرعية السياسية في بداية ثورة وفي وضع لا يوجد فيه هذا التوافق الذي يؤسس للانتخابات، وليس العكس. والدليل هو التفتت والتشرذم الحاصل في مصر والابتعاد عن تحقيق أهداف الثورة والانغماس في الصراع الداخلي الذي أسست وهيأت له وعبدت الطريق أمامه الانتخابات.
ومن الجلي أن التغيير الذي تتطلبه الثورة لتحقيق أهدافها ليس أمراً هيناً وميسّراً في مصر، وذلك نظراً لوجود مقاومة داخلية فعالة من قبل النظام القديم وتحالفات مع أطراف إقليمية ودولية بمجملها هي ثورة مضادة. ولذا كان من الضروري توحيد جهود كافة الأطراف المساندة للتغيير لتحقيق هذا الغرض في إطار عريض يحكم، إن أريد تحقيق أهداف الثورة. وكان من الضروري أيضا التوافق على الدستور أولاً قبل أية انتخابات أو استفتاء، أي التوافق على طبيعة الدولة ومكوناتها الأساسية، وليس كما حصل في مصر إذ أضحى الدستور مادة إضافية للشقاق الداخلي وما يزال. وإذا تعذر ذلك لسبب من الأسباب، كان من الممكن الاتفاق على تعديلات مؤقتة لدستور 1971 كما اقترح البعض كإجراء مرحلي، ولم يأخذ المجلس الأعلى السابق للقوات المسلحة بهذا الاقتراح ولم يأخذ به الإخوان أيضا. والواقع أن هذا المجلس كان ضد الثورة حتى لو كان مع إزاحة مبارك عن الحكم بعد اندلاعها .
غير أن قانون التظاهر يمكن أن يؤسس لبداية جديدة إن استمر النظام الحالي في مسعى تكبيل العناصر الثورية حتى لو أن هذا القانون يستهدف القاعدة الشعبية للإخوان بالدرجة الأولى، لكنه أيضل يطال الجميع. والمظاهرات "غير المرخصة" من قبل وزارة داخلية النظام القديم التي جرت بعد إقرار القانون والتي دعت إليها بعض القوى المناهضة للإخوان وللنظام القديم عل حد سواء، قد تشكل "عودة الوعي" وإعادة اصطفاف التحالفات بوجود قواسم مشتركة الآن بين خصوم الأمس القريب. ولكن هذا أيضا مرهون بتخلي الإخوان وخصومهم الثوريين عن الاعتقاد المدمر أن الانتخابات وفرت شرعية سياسية للحكم في بداية ثورة في حالة مصر، والعمل ما أمكن ذلك على تشكيل حكومة ائتلافية، والتوافق على حد أدنى من أهداف الثورة، ابتداءً بإصلاح وزارة الداخلية، وأجهزة الأمن المختلفة والمتعددة، والجهاز القضائي، والبيروقراطية الحكومية المتكلسة، والإعلام الحكومي، والحكم المحلي. والإصلاح بكافة أشكاله من مطالب ميادين التحرير الأولى وهي الترجمة لشعار "الشعب يريد إسقاط النظام". بعد ذلك، توجد قائمة أخرى من مطالب ميادين التحرير، ولكن هذه ستكون بداية أولى على طريق طويل. فالثورات صيرورة تمر بمراحل، ويخطئ من يظن أن لها نهايات معلومة أو أنها تنتهي خلال أعوام معدودة.